يُعدّ أبو فرعون الساسي واحدًا من أبرز شعراء الهزل والشحاذة في العصر العباسي. تعود أصوله إلى مدينة ساس الواقعة أسفل واسط، قبل أن ينتقل إلى البصرة حيث عاش معظم حياته، وقد لازمته الفاقة حتى صبغت شعره بلونٍ خاص يجمع بين مرارة الحاجة وخفة السخرية، وقد جمع الباحث أحمد الحسين ما تفرّق من شعره في كتابه أشعار الشحاذين، الذي يُعدّ من أهم المصادر التي وثّقت أدب المهمشين في التراث العربي
ومن أشهر ما نُقل عنه هذه الأبيات التي نظمها على بحر الرجز، وهو بحر سريع الإيقاع يناسب طبيعة الشكوى الارتجالية والهزل الخفيف
يَا قَاضِيَ البَصرَةِ ذَا الوَجهِ الأَغَر *** إِلَيكَ أَشكُو مَا مَضَى وَمَا غَبَر
عَفَا زَمَانٌ وَشِتَاءٌ قَد حَضَر *** إِنَّ أَبَا عَمرَةَ في بَيتي اِنجَحَر
يَضرِبُ بِالدَفِّ وَإِن شَاءَ زَمَر *** فَاِطرِدهُ عَنِّي بِدَقِيقٍ يُنتَظَر
التحليل الأدبي
تُجسّد هذه الأبيات بمهارة الحالة المعيشية القاسية التي كان يعيشها الشاعر، فقد استخدم كنية "أبي عمرة" للدلالة على الجوع، في استعارة مبتكرة تُحوّل الإحساس الداخلي إلى كائن حيّ يقتحم البيت وينجحر فيه
ويُلاحظ في الأبيات
ـ الصورة المكانية: انجحر
الفعل يوحي بالاستيطان القسري، وكأن الجوع ضيف ثقيل لا يغادر، بل يلتصق بصاحبه كما يلتصق الحيوان بجحره
ـ الصورة الصوتية: يضرب بالدف وإن شاء زمر
هنا تبلغ السخرية ذروتها؛ إذ يشبّه الشاعر قرقرة أمعائه بأصوات الدف والمزمار، إنها صورة تجمع بين الألم والفكاهة، وتحوّل الجسد الجائع إلى مسرح موسيقي ساخر.
ـ البعد الإقناعي: فاطرده عني بدقيق يُنتظر
الجوع لا يخرج إلا بالطعام، والشاعر هنا لا يكتفي بالشكوى، بل يقدّم الحلّ للقاضي: أعطني دقيقًا، فيرحل أبو عمرة
ـ المزج بين التراجيديا والفكاهة
هذا المزج هو السمة الأبرز في شعر الشحاذة العباسي: ألم حقيقي يُقدَّم في قالب مرح، ليكون أكثر تأثيرًا في نفس المتلقي وأكثر قدرة على استدرار العطاء
ـ نص نابض بالحياة
يقدّم أبو فرعون الساسي في هذه الأبيات نموذجًا بديعًا للهزل الاجتماعي الذي يكشف هشاشة الإنسان أمام الفقر، ويُظهر في الوقت نفسه قدرة الشاعر على تحويل الجوع — وهو أكثر التجارب قسوة — إلى نصّ فني نابض بالحياة والمرح، إنه صوت المهمّش الذي يشتكي، لكنه يشتكي وهو يبتسم
Add comment
Comments